ما بين ذكريات الأمس و يوميات الحاضر ،سلاسل من أحداث و أحداث وحدتها و ألفت بينها رائحة دم عانق ترب الوطن الممتزج بعبق أمطار شتاءات نزفت و لا زالت منذ ما يربو على الستين عاما.
فلسطين ، من هناك بدأت الحكاية و لم تنته. حكاية تعاقبت فصولها السرمدية مجارية فصولا خريفية تتابعت حتى فاقت الستين باثنين. خريف ثم خريف ثم آخر ، تسقط أوراق الحكاية تباعا لتعاود الانتظام مجددا حذاء الورقة الأخيرة. تتكشف ملامحها لكن لا تنتهي الحكاية .
فلسطين ، كلمة حفرت لنفسها أخدودا عميقا يشق لحاء إطار من خشب الزيتون العتيق و الذي استقرت بداخله صورة الحاج حلمي –رحمه الله- ببزته العسكرية وعتاده البسيط. لم يكتمل المشهد فيها بعد ،فالحاج حلمي لم يكن وحده هناك في تلك الصورة التي تآلف فيها لون الرصاص الفاحم مع صفرة الورق الباهت . في أفقها كانت تلوح أشباح ملامح لم تتضح. كانت معالم شيء أشبه بأطلال مكومة حينا و متناثرة حينا آخر. أطلال امَّحت تقاسيمها فما عاد يعرف كنهها : أهي طوب أم ... أشلاء؟!
أمام الصورة وقفت. طويلا طويلا وقفت . حاولت –كما حاولت جدتي من قبل- ترجمة ملامحها لكنني –وكما جدتي تماما- فشلت. في الصورة اختلط الطوب المتناثر بالشلو الممزق فغدت شبه ماضٍ شهده التاريخ في عمر مضى من أعمار الحياة.
قديما ، كنت أقف مع صويحباتي قرب باب غرفة جدتي لنتأملها تحمل الصورة ممعنة في أدق دقائق تفاصيلها، و هي تسر لنفسها بكلمات تزيد نفور أوردة كفيها الهزيلين. كنا نتضاحك حينها و نقول :"جنت جدتنا".
لكنني اليوم وحين حملت الصورة بين يدي أيقنت بما لا يدع مجالا للشك أن جدتي "لم تُجن". نفرت الذكرى من أصقاع ذاكرتي كما نفرت أوردة كفي جدتي من قبل. نفرت و حُق لها أن تنفر.
- " في زمن مضى يا ابنتي ، لم نكن هنا. كنا هناك في مكان غير هذا و زمان غير هذا. دارت علينا الدوائر ،تمكن معسول الكلام من ألبابنا ،و وجلت قلوبنا فصرنا هنا ".
" في زمن مضى يا ابنتي، و في مكان غير هذا و ذاك وقفت مع كثير من الواقفين. قربني جدي إليه و طوقني ساعده بقوة. لا زلت أستشعر وخز شعر ذراعه أسفل ذقني الغض. أذكر تماما كيف انتصب شعره واقفا بعد قشعريرة خائفة سرت في جسده و هو يتحسس طريق كفه الخشن إلى فمي كي يكممني ليتمتم بعدها بكلمات ما فتئت تؤرق عمري بعدها. بجسد مرتعش و ذراع يلفني و راحة تكمم فمي قال جدي : " راحت البلاد يا أمينة". كان يخشى انفلات صرخاتي الحادة فكممني بحزم لكنني لم أكن لأصرخ حينها ، أتعلمين لماذا يا ابنتي ؟" كانت نظراتي المندهشة جوابا كافيا لجدتي التي ارتقبت هنيهات علني أجيبها لكن عبثا انتظرَت فأطرقت رأسها ساهمة ثم تابعت :"لأنني لم أكن أعي معنى "راحت البلاد يا أمينة". لم أكن أعي حجم البؤس و المرار الذي يلفها. لم أكن أعلم أن ما طرق رأسي بخفة حينها لم يكن سوى بضع دمعات مالحات سقطن من عيني جدي . لم أحسن حينها تفسير الحركة غير المنتظمة لصدر جدي لأعلم أنه كان يتلوع أسى و يبكي. كل ما كنت أعلمه حينها أنه خطب جلل".
- "و كيف عرفتِ ذلك؟" بدا سؤالي أخرقَ أحمق في لجة زخم الأحداث لكنني كنت طفلة بما يكفي لأسأل بكل تلك السذاجة و البراءة. كانت نظرات جدتي عميقة بل و موغلة في العمق كما لو أنها توقفت عند ذاك الزمن و أعلنت توقف عقارب الوقت عن الدوران منذ ستين عاما و نيف. صمتت جدتي طويلا و بقيتُ تلك الطفلة الساذجة الجالسة على حجرها في صمت طفولي مترقب حتى حطم صوت جدتي المثخن بألمه كل جدران الصمت المقدس في أروقة المعاهدات : " في مكان ناء حيث لا شيء سوى رمل صحراوي حار ،تجمع الكثيرون : منهم من افترش الأرض الحارقة و لم يبالِ و منهم من انتصب واقفا يبحر محدقا في اللاشيء خلف الأفق الصحراوي الممتد. أما جدتي بثوبها الأسود المطرز بخيوط حمراء قانية و خمارها الأبيض المغبر بصفرة الرمال الصحراوية فقد أجلست نفسها فوق حجر صغير ناتئ . مددت يسراها على ظهر ركبتيها و أمسكت بيمناها طرف خمارها و سترت به أسفل وجهها. كانت ردة فعل جدتي حين سمعت جدي يتمتم: " راحت البلاد يا أمينة" أقوى دليل على أن هذا خطب جلل. لم تنهض ، لم تصرخ و لم تنبس ببنت شفة ؛بل ضربت بكلتي كفيها على فيها و جحظت عيناها كما لم تجحظا من قبل. منذ ذلك اليوم و حتى توفاها الله بعد عدة أشهر ، لم أسمع صوت جدتي مطلقا ".
عدتِ لصمتك مجددا يا جدتي كأنما عاودت الإبحار لتسترجي عودة الذكرى التي لم تكن لتفارقكِ هنيهة ثم تابعت بصوت أكثر استسلاما: " أجل يا ابنتي ، فجدتي وعت جيدا حينها معنى "راحت البلاد يا أمينة" . رحلت جدتي و الحسرة تأكل نيرانها من قلبها ما تأكل. عاشت عمرا طويلا في أحضان ذاك الماضي قبل أن يرحل إلى الأبد. ما كانت أبدا لتنسى عز البلاد و خيرها. ما كان لأنفها أبدا أن ينسى رائحة خبز التنور التي كانت تعبق جدران البيت الطيني منذ الصباح الباكر. ما كان لكفيها المتشققين أن يغفلا عن ألم لذيذ كان يسري فيهما كلما جلست لتغسل ملابس الفلاحة لأبنائها. ما كان لها يوما أن تنسى فتلك الذكريات كانت بمثابة روح تنبض بداخلها و عمر يسري في عروقها . كان الوطن نظر عينها و هواء صدرها و نبض قلبها الذي توقف يوم ضاع الوطن يا ابنتي " .
أتراكِ بكيتِ لحظة نطقتها يا جدتي ؟ أتراني كنت طفلة بلا شعور لدرجة ألا أحس بدمعك يتساقط على رأسي الصغير المتكئ على صدرك التعِب ؟ سألتكِ حينها بكل برود طفولي عفوي : " و جدك يا جدتي ، ألم يشعر بما شعرت به جدتك حين ضاع الوطن كما قلتِ ؟".
لم أعلم حينها أكانت تلك الهزات الصغيرة التي شعرت بها ناجمة عن ضحكة خفية أبت أن تبارح أسوارها لسذاجة سؤالي أم كانت بقية مكملة لدموع سقطت قبل هنيهات .
لكنني الآن و بعد سنين طويلة أكاد أجزم أنها تلك البقية المكملة لصغيرات مالحات شققن طريقهن عبر ثنايا تجاعيد وجهك الهائم في ذكراه. تابعتِ حينها بذات الهدوء كأنما اعتدتِ تلك الحكاية : " جدي ؟! بكى جدي طويلا في زمن كان يحرم عليهم فيه البكاء . أعلن تمرده و ثورته على كل الأعراف و التقاليد الوطنية و الرجولية و بكى. أجل يا ابنتي بكى كما لم يبكِ من قبل . صعب عليكِ أن تفهمي ماذا كان يعني بكاء الرجال في ردهات ذاك العمر الذاوي لذا سيصعب عليكِ أن تفهمي معنى دموعه الحرى التي عانقته طويلا حتى حصل على هذه الصورة . صورة مجد زال و اندثر و لم يبقَ منه سوى فتات يتشدق به ثلة من منافقي تلك الأيام ".
بيديكِ المجعدتين رفعتِ الصورة و وضعتِها قبالتي و قلتِ بصوت لا زلت أذكر مسحة النشوة التي دست نفسها فيه عنوة : " انظري ، كان جدي قائدا في الثورة قبل أن تضيع البلاد . انظري جيدا و تأمليها فلم يجفف دمع جدي سواها".
الآن فقط يا جدتي فهمت دموع رجال ذاك الزمن فما عدتُ تلك الطفلة العابثة على صدر جدتها . الآن فقط يا جدتي عرفتُ لمَ امتزج لون الرصاص بصفرة الورق بهذه العشوائية؟ أجل يا جدتي الآن و الآن فقط عرفت : إنها بقايا دموع جدكِ و عَبراتكِ كذلك .
لمحت طيف والدي قادما فسارعت بمسح دمعة كانت قد سقطت رغما عني لتستقر في زاوية الصورة لتعبث بها قليلا و تمعن في مزج ملامحها لتعاود الحياة اختلاطها مع الموت المجرد فيها.
- " هل أنهيتم مراسم الدفن يا أبي؟"
- " أجل يا ابنتي ، كفكفي دمعكِ و تمني لها الرحمة".
- " أجل " قلت و ابتسامة عنيدة تأبى إلا أن تخترق سيل دمعي الجارف و أعرضت بوجهي صوب الصورة و همست بإحساس تملكني :" نامي بسلام جدتي ، فما عدنا أولئك الذين ترهبهم رائحة الموت القادم من أي جهة كانت". وضعت الصورة جانبا و غادرت غرفة جدتي تشيعني كلماتها حين حكت الحكاية للمرة الأخيرة و قالت في سطرها الأخير :" إنها حكاية العدل المشنوق بخيوط حريرية نسجتها أوجه زائفة كانت في عمر فائت. سقط قناعها فتلقفته أوجه أخرى . ثقي يا ابنتي أنه سيسقط ثانية و ثالثة و عاشرة و لن تنتهي الحكاية " .