[b]
قصة صياد العصافير
[/b]
قبل مئات السنين، عاش في المدينة الخضراء رجل عجيب اتخذ من صيد العصافير مهنة له،
فتفننفي ابتداع طرق ووسائل صيدها، وعرفه جميع الناس وذاع صيته، وسمع بهالكثيرون في مدن كثيرة، وسموه صياد العصافير. ثم شاع هذا الاسم الجديد حتىنسى الجميع اسمه الحقيقي.
كان يصطاد أعداداً كبيرة من العصافير كل يوم، ولم يكن هناك أحد يعرف ماذا يصنع بها؟!
كيفيبيعها؟ وأين؟ لكن الناس في المدينة الخضراء تنبهوا إلى أمر غريب كانعليهم أن يتوقعوه: هو أن عدد العصافير بدأ يقل في المدينة، وصار من النادروالمفرح أن يرى الإنسان عصفوراً على غصن شجرة أو واجهة بيت أو في فناءمنزل، لكنهم لم يكترثوا كثيراً حتى بعد أن تنبهوا، فما دخل العصافير فيحياتهم؟!
غير أن الأولاد والصبيان في المدينة الخضراء أحزنهم هذاالأمر، ومن دون وعي أو قصد، صاروا يشيرون قافزين مبتهجين فرحين كلما رأواعصفوراً في مكان، ثم أخذ الأولاد يتحركون من مكان لمكان من أجل رؤية عصفوركان يطير مرعوباً من فرط وحشة المدينة التي تخلو من جماعة العصافير، حتىإن العصفور الوحيد كان يصيح خائفاً مستنجداً لعله يسمع صوت آخر، وإن كانفي آخر المدينة.
وهكذا صارت العصافير الوحيدة تطير من مكان لمكان حتى يجتمع اثنان أو ثلاثة منها، ومع هذا كله لم يهتم الناس الكبار ولم يكترثوا..
وكانصياد العصافير يتبعها، ويصيد تلك الفرادى الحزينة المستوحشة، فإذا صادف أنرآه مجموعة أولاد، فإنهم يسرعون لكي يدفعوا العصفور للطيران والابتعاد عنمكان الصياد، أو يزعقون ويصيحون ليغطوا على صوت نداءاته المرتاعة الفزعة،فلا يسمعها الصياد..
ثم جاء ذلك اليوم، وساد سكون خاص زاد من حزنالأولاد وشعورهم بالوحشة والخوف، فقد خلت المدينة من أي عصفور، ولم يعديرى رفيف جناح أو صدى زقزقة، ويوماً وراء يوم كان الناس ماضين في حياتهموأعمالهم، لا شأن لهم بالعصافير وصياد العصافير.
لكن.. شيئاً فشيئاً،ووقتاً وراء وقت، شعر الناس بوجود شيء غريب في المدينة.. كان هناك ما تغيرفيها.. صار الناس يحسون به ولا يعرفونه، وتنبه واحد منهم إلى وجود بعوض،وتنبه آخر إلى وجود حشرات أخرى طائرة أو زاحفة، والأكبر من هذا أن مجموعاتكبيرة من الجراد بدأت تظهر في المزارع والمراعي والبساتين والحقول، وصارتالحياة أكثر صعوبة مما توقعه الجميع، فقد لاحقت أعداد البعوض والذبابالناس في داخل بيوتهم وحجرات نومهم، وزحف الجراد إلى كل مكان فيها، وضجالناس من الشكوى، وطلب الجميع الحل..
كان صياد العصافير قد انتقل إلىمدينة الفيحاء المجاورة، وتابع صيده للعصافير، لكن الناس فيها سمعوا ورأواما حل بالمدينة الخضراء، ولكي لا تصل حالهم إلى ما وصلت إليه.
حال تلكالمدينة، قبضت شرطة مدينة الفيحاء على الصياد، وبدل أن يحاكموه أويعاقبوه، رأوا أن يقوموا بتسليمه إلى رجال المدينة الخضراء.
كانت محاكمته من أكبر ما شهدته المدينة الخضراء من أحداث، إذ اجتمع الناس صغاراً وكباراً في مساحتها الكبيرة، وتقدم الأولاد ليحاكموه
وأروهمقدار ما ألحقه بهم من أذى.. وأبكاه ما رآه عليهم من حزن، وحاكمته النساءبسبب ما أحله من وحشة وسكون ثقيل في البيوت بعد صيده لعصافيرها، وحاكمهالرجال بسبب ما ألحقه في المدينة الخضراء من أذى ودمار وخسارة، وحكمواعليه بالبقاء في أكثر مناطق المدينة جراداً وبعوضاً وحشرات وذباب، وتركوهمكشوف الجسم تحت رحمتها جميعاً.
كان الجميع يعرفون الحل، أن تعود العصافير تعشش وتزقزق وتطير في المدينة. لكن كيف؟؟
رأوا أن يجلبوا عصافير من مدن أخرى أو بلدان أخرى، ورأوا أن يجلبوا بيضاً ليفقس في المدينة فلا تعرف عصافيرها غيرها.. ورأوا...
لكن ولداً لطيفاً تقدم من الجميع، وفي يده قفص فيه عصفوران، ذكر وأنثى، وقال:
لديّ هذان العصفوران، كنت خبأتهما في بيتنا عن عيون الجميع حتى عن عيون أبي وأمي.
عندئذ تقدم حاكم المدينة الخضراء وحمل العصفورين بيديه كما يحمل أثمن شيء في مدينته كلها، ورفعهما عالياً، وأطلقهما في الريح.
والعجيبأن العصفورين طارا متسابقين، طارا وطارا حتى لفا المدينة كلها مرات من دونأن يهبطا أو يحطا في مكان ليستريحا، ثم غابا عن الأنظار تماماً وسط تهليلوتصفيق وفرح الجميع.
بعد سنين، عاد الأولاد يبتسمون، وعادت الأمهاتتتنادى من داخل بيوتهن، وانشغل الرجال في أعمالهم، فقد امتلأت الأشجارولسطوح، وفناءات المنازل بالكثير الكثير من العصافير المزقزقة الوديعة،وقد عرف الجميع درساً كبيراً هو أن الله سبحانه وتعالى له حكمة بالغة فيخلقه لمخلوقاته كلها
!!.