[center]قبل إبراز أهمية اللغة في حياة الأمم نستعرض ثلاثة مشاهد تبيّن
التآمر على اللغة للقضاء على مستقبل الأمة، وثلاث شهادات أو إشادات أجنبية بلغتنا
العربية.
مشاهد خوف من اللغة وتآمر عليها
هناك ثلاثة مشاهد أو أحداث
تاريخية تجسّد شعور الخوف من اللغة والسعي للقضاء عليها.
المشهد الأول أميركي.
فالغزاة أو المحتلون أو المستعمرون الأوروبيون البيض للقارة الأميركية كانوا
يرددون، لدى وضعهم مخططاً استعمارياً لاستئصال السكان الأصليين (أي الهنود الحمر)،
شعاراً مفاده أن اللغة هي خط الدفاع الأحمر والأخير للهنود. وتدمير هذا الخط يؤدي
إلى إزالة لغتهم، وطمس هويتهم، وتجريدهم من جوهر وجودهم، وحرمانهم من مكاسب
الثقافة، وتحويل كل هندي إلى كائن بشري جديد مقتلع من جذوره وتراثه، ومنتم إلى غير
أهله وقومه.
والمؤلم أن المستعمرين الأميركيين لم يكتفوا بإبادة لغة السكان
الأصليين، بل أصروا على إبادتهم كشعب كان يتمتع بوجود حضاري.
والحقيقة أن من
أهداف كل استعمار إنتاج إنسان جديد لا علاقة له بماضيه وتراثه. وهذا ما يسعى إليه
الصهاينة في فلسطين. ففي تل أبيب لجنة تتعاون مع جنرال أميركي مقيم في السفارة
الأميركية، وظيفته الوحيدة إنتاج جيل جديد من الفلسطينيين، بلا ذاكرة، وبلا تاريخ،
وبلا أمل، وبلا حلم يتعلق به، مستعد للعيش بسلام مع الإسرائيليين، يتنكر للمقاومة
وينعتها بالإرهاب، ويعتبر التعاون مع الإسرائيليين عملا حضاريا يحظى بمباركة الشعوب
الراقية.
والمشهد الثاني عثماني. فقد عاش العرب أربعة قرون في ظل الإمبراطورية
العثمانية. وفي أواخر حياة هذه الإمبراطورية طالب العرب في البداية (وكان ذلك من
حقهم وواجبهم) بالحكم الذاتي أو اللامركزية، ثم بالاستقلال.
وتصدت لهم جماعات
تركية، حاكمة وحاقدة، وكوّنت لجنة لدراسة الوضع المتأزم ومعرفة السبب الذي جعل سكان
الوطن العربي يرفضون الانصهار في النسيج التركي، رغم القرون الأربعة من الحكم
التركي، ورغم نجاح بعض الدول الأوروبية في إلغاء هويات مستعمراتها خلال عقود معدودة
من الزمان فقط.
وبعد الدراسة والتحليل أقرّت اللجنة بأن السبب يعود إلى حيوية
اللغة العربية التي تجمع بين العرب على اختلاف مللهم وأقطارهم، وتستند إلى بلاغة
كتاب مبين.
وعندما اكتشفوا العلة أو السبب قرروا (وكان ذلك قبيل الحرب العالمية
الأولى) اتخاذ التدابير السريعة لإبادة اللغة العربية، على غرار ما فعله الأوروبيون
باللغات الهندية لدى وصولهم إلى القارة الأميركية. ولكن انهيار إمبراطوريتهم أفشل
مخططهم، فاكتفوا بالانتقام من الحرف العربي في لغتهم التركية وتقليص الاستماع إلى
لغة القرآن الكريم.
والمشهد الثالث تبشيري. فالتبشير الغربي انتشر في البلاد
العربية منذ القرن التاسع عشر. والتبشير والسياسة الاستعمارية وجهان لعملة واحدة.
ولهذا كان التعاون بينهما تاما ووثيقا.
وكان الغرض من التبشير إفساد المقومات
الأساسية للقومية لدى الشعوب.
وبما أن الثقافة العربية هي أهم المقومات
والخصائص والدعائم في المجتمع العربي، فقد أخذ المبشرون يشوهون وجهها، ويُسيئون إلى
سمعتها، ويحطوّن من قدرها في نفوس أصحابها والمتعاملين بها. وأدركوا أن تقطيع أوصال
العرب لا يمكن أن يتم ما دام هناك لغة واحدة تجمع بينهم، وما دام هناك حرف عربي
يربط حاضرهم بتراثهم التليد، فراحوا يشجعون ضعاف النفوس والضمائر من العرب على
الكتابة باللهجة العامية والتخلي عن الحرف العربي لإحلال الحرف اللاتيني محله،
اعتقادا منهم بأن تحقيق ذلك يؤدي إلى انقطاع صلة العرب بماضيهم وتراثهم ومجدهم
الفكري، وإلى ظهور لغة خاصة في كل قطر عربي، وإلى تحويل الوطن العربي أمماً شتى
متباعدة ومتنافرة لا يجمع بينها أي رابط ثقافي أو حضاري.
[[[
وهناك، إلى
جانب تلك المشاهد، ثلاث شهادات تنطوي على إكبار واعتزاز بلغتنا العربية:
الشهادة الأولى من المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه Sigrid Hunke، في كتابها
المشهور: «شمس العرب تسطع على الغرب». ففيه أشادت «بالمعارف المبتكرة والتحقيقات
العلمية الرائعة التي قدمتها العبقرية العربية هدية للإنسانية عامة، ولأوروبا خاصة،
كالأرقام العربية، وعلم الجبر العربي، وعلم الطبيعة، والاسطرلابات العربية...
وغالبية الاكتشافات العربية حملت معها، ولا تزال تحمل حتى يومنا هذا، أسماء
إنكليزية أو فرنسية أو ألمانية».
والشهادة الثانية من مدير مركز الدراسات
الشرقية في جامعة أو*فورد (في بريطانيا). فقد أتيح يوما للأستاذ طلال سلمان زيارة
هذا المركز ومقابلة مديره الذي فاجأه بسؤاله: «هل تعرف ما هي أولى الكتب التي جاءت
إلى أو*فورد، ومن أين جاءت لتصبح الركيزة الأولى لمدينة العلم هذه؟ لقد كانت كتباً
باللغة العربية، لعلماء عرب. لقد جاءتنا من الأندلس التي كانت عاصمة العلم في
العالم. من واجبي أن أشهد لعلمائكم بأنهم كانوا رواداً في مجالات علمية عديدة،
بينـها الطـب والرياضـيات والهندسة وعلم الفلك والموسيقى، فضلا عن مجالات الفلسفة
والأدب... ولن يفوتني أن أذكر أن العلماء الــعرب هم الذين ابتـدعوا علم الاجتماع،
وكلّنا ندين لابن خلدون بهذا الفضل العظيم».
والشهادة الثالثة من الأمم
المتحدة. فقد قررت هذه المنظمة العالمية في العام 1973 جعل اللغة العربية لغة رسمية
في جميع أجهزتها ولجانها، إلى جانب اللغات الخمس الرسمية التي نص عليها ميثاق الأمم
المتحدة، وهي الانكليزية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية. واعترفت الجمعية
العامة في قرارها الذي عزز مكانة اللغة العربية في المنظمة العالمية بأن لهذه اللغة
«دوراً مهماً في حفظ حضارة الإنسان وثقافته ونشرها». وبذلك أصبحت لغتنا تقف على قدم
المساواة مع اللغات الخمس الرسمية.
اللغة هي أساس كل هوية
اللغة هي ذاكرة
التاريخ، ووعاء الثقافة، وأساس الهوية، والعنصر الأساسي في كل قومية، والمرآة التي
ترى فيها كل أمة أهم مقومات شخصيتها، والوسيلة الفاعلة لصون وحدتها والحفاظ على
حضارتها.
ولأن لغتنا العربية هي حاضنة ثقافتنا، فمن واجبنا بذل الجهود
لحمايتها، وإلزام أبنائنا باحترامها، واشتراط إتقانها على المسؤولين والإعلاميين في
بلادنا، ومنع الكتابة أو الخطابة بها على من يلحن ويرطن.
والمؤسف أننا في الوقت
الذي نهتم فيه بإتقان اللغات الأجنبية نعمد، في المدارس والمعاهد، إلى إهمال لغتنا
العربية حتى باتت فعلا غريبة في بلادها. وهذا ما جعل مجامع اللغة العربية، في
العقود الأخيرة، تكرر شكواها من تدهور مستوى الاهتمام باللغة العربية، وتراجع اللغة
الفصحى أمام اللهجات العامية المستخدمة في وسائل الإعلام، وخفض ساعات تدريس اللغة
العربية في المدارس والجامعات، وانتشار المدارس الأجنبية والتدريس باللغات الأجنبية
على حساب العربية.
ويحدث هذا في وقت يقوم فيه غيرنا بتنمية لغاته. فاليهود،
مثلا، أحيوا لغتهم العبرية وتمكنوا من ترجمة المصطلحات الأجنبية الحديثة الى
مرادفاتها العبرية.
ومن الصعب أن نجد أمة متمسكة بقوميتها تتعامل مع الآخرين
بغير لغتها. وكُتُب التاريخ تُثبت أن اللغة العربية كانت، في القرون الماضية (وحتى
القرن السادس عشر)، إحدى لغتين كُتبت بهما الفلسفة والعلوم: اللغة العربية في الشرق
واللغة اللاتينية في الغرب. ومن شأن ذلك إبطال الادعاء بأن العربية لغة أدبية لا
تصلح لتكون لغة علمية.
إن لغتنا استطاعت في الماضي استيعاب جميع أنماط المعرفة
الإنسانية، من أدب وفلسفة وعلوم رياضية وفلكية وكيميائية. ويكفي دليلا على رسوخها
في مجال العلم الصرف أن مفرداتها ومصطلحاتها العلمية منتشرة في لغات أكثر الأمم
تفوقا في العلم والتكنولوجيا، فعلم الجبر، مثلا، لا يزال يُعرف في العالم باسمه
العربي.
ونذكر أن الحرف العربي الذي أراد بعض المضللين أو المتآمرين استبداله
بالحرف اللاتيني انتزع إعجاب الفنانين الأجانب الى درجة اعتباره أجمل الخطوط. ولهذا
أوصى كثير من المستشرقين، وفي مقدمتهم المفكر الفرنسي ماسينيون L. Massignon
بالتمسك بهذا الحرف *مة من سمات الحضارة العربية.
واقتران اللغة العربية
بقومية أبنائها جعل المستعمرين يبذلون الجهود للقضاء، بكل الوسائل، على هذه اللغة
التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها وكانت من أهم عناصر تماسك الأمة العربية.
ومن الثابت أن ما من حضارة ازدهرت وأثمرت إلا وكانت اللغة من أهم دعائمها، وان
ما من ثورة اجتماعية كبرى قامت إلا وكان للغة المجسدة في كتابات كبار أدبائها
ومفكريها دور بارز في التمهيد لها وشحذ همم أبنائها. والثورة الجزائرية كانت، في
جانب كبير منها، تمرداً على محاولات الاستعمار الفرنسي القضاء على اللغة العربية
وإحلال الفرنسية مكانها.
ومن الأمثلة على الهجمة الشرسة على لغتنا أن محمد علي
باشا (في مصر) أمر بتدريس الطب والعلوم العسكرية باللغة العربية، فنشأت نتيجة لذلك
حركة ترجمة أثمرت 135 كتابا علميا و66 كتابا عسكريا. ولكن المستعمرين الانكليز
الذين احتلوا مصر، في العام 1882، سارعوا الى فرض لغتهم على التعليم، كما فرض
الفرنسيون لغتهم في المغرب العربي.
كلمة أُلقيت في ندوة أقامها المجلس
الثقافي للبنان الجنوبي، في 29/10/2009، بعنوان: «دفاعاً عن اللغة العربية».[/center]