[url=http://images.fpnp.net/full/MTM3OTc=.jpg][img]
http://images.fpnp.net/232x200/MTM3OTc=.jpg[/img][/url] في مقر المقاطعة أثناء الحصار (أرشيف)قد تكون الذكرى السادسة اليوم لاغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مناسبة للحديث عن الخيارات الفعليّة التي يمكن اتخاذها على ساحة الصراع. أبو عمار أعطى نموذج هذه الخيارات التي أدت إلى استشهاده مع انتقاله من محور إلى آخر، ولجوئه إلى إيران للتسلّح، وهو ما لم تستطع إسرائيل وأميركا احتماله
في زمن انعدام الخيارات على الساحة الفلسطينية، أو الخيارات العدميّة التي يطرحها رئيس السلطة محمود عبّاس، تمر الذكرى السادسة لاغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. ذكرى قد تكون مناسبة مفيدة لاستعادة النقاش حول البدائل، وأخذ مسار الأشهر الأخيرة لحياة أبو عمّار في عين الاعتبار، ولا سيما أنها مرحلة البحث عن خيارات عاشها عرفات ما بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد ولقاءات طابا. حينها كان أبو عمّار أمام لحظة القرار واللجوء إلى الخيار المناسب. رأى الأبواب الموصودة. لم تكن الأبواب غربية فحسب، بل عربية أيضاً. لم يفكّر في الاستقالة أو التنحي أو حل السلطة لأنه كان أميناً على الحلم الفلسطيني والمكاسب التي يعتقد أنه أنجزها باتفاقات أوسلو، ولا سيما «نقل الثورة إلى الداخل»، كما كان يدأب على القول للمقربين منه.
في ذلك الوقت، وجد عرفات نفسه في حال حرب حقيقية، بعدما لجأت السلطات الإسرائيلية إلى التصعيد في مواجهة ثورة شعبية احتجاجاً على دخول أرييل شارون إلى المسجد الأقصى. هو معتاد على مناورات الحرب والسلم. رجل كان مفصليّاً في كل مراحل العمل الوطني الفلسطيني، بداية من معركة الكرامة في عام 1968، التي دشّنت عملياً العمل الفدائي الفلسطيني، وصولاً إلى مفاوضات السلام بأوجهها المتعددة، وما بين هذا وذاك من محطّات حلوة ومرّة للثورة الفلسطينية.
في لحظة الحرب يعود ياسر عرفات إلى موقعه العسكري. يعود إلى الرمز الأساس لبذلته الكاكية. فهذا الرجل البراغماتي إلى أقصى الحدود هو بالأساس قائد ثورة مسلحة، استطاع في أكثر من مناسبة إخفاء الطابع العسكري للعمل الفلسطيني لخدمة أجندات تفاوضية مرحلية، لكنه لم يعمد يوماً إلى قتل العمل العسكري، الذي بقي حتى اللحظة الأخيرة ورقة مساومة بيد أبو عمار.
في لحظة الاختيار، كان عرفات على يقين مما يريد. لم يتردد في اتخاذ قرار المواجهة. قرار طبيعي لأي زعيم وطني في ظل الهجمة الشرسة التي كانت تشن على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة. قد يكون «الختيار» دفع ثمن خياراته، لكنه على الأقل كان منسجماً مع قناعاته ورغبات شعبه. قناعات أوصلته إلى طرق كل الأبواب الممكنة لتفعيل المواجهة، وإظهار أن للفلسطينيين وسائل بديلة حقيقيّة للإيلام، فكانت الانتفاضة الثانية ومحطاتها المفصلية.
محطات مجتمعة كانت وراء قرار القتل الذي اتخذ للتخلّص من أبو عمار، سواء عبر الحصار الذي فرض عليه في مقر المقاطعة أثناء عدوان السور الواقي وبعده، أو عبر مؤامرة الاغتيال الغامض التي يقتنع بها الغالبية العظمى من الفلسطينيين والعرب، وروى سيناريوهاتها العديد من التقارير العربية والغربية. في الحالتين فإن موت عرفات كان قتلاً أو ما يشبه القتل.
قتل جاء بفعل مجموعة من الخيارات التي اتخذها أبو عمّار، غير أن محطة مفصلية أساسية في فترة الانتفاضة كانت وراء القرار النهائي الإسرائيلي ـــــ الأميركي بتصفية ياسر عرفات جسديّاً وسياسيّاً. محطة اسمها «كارين إيه».
من يذكر «كارين إيه»، تلك السفينة التي أعلنت إسرائيل أنها ضبطهتا في البحر الأحمر في الثالث من كانون الثاني عام 2002؟ الاسم لا يُحدث صدى في ذاكرة الكثيرين، ولا سيما أن تفاصيله تاهت على وقع دويّ مدافع عدوان «السور الواقي» الذي جاء بعد أقلّ من شهرين على ضبط السفينة، التي يتردد الكثير من المسؤولين الفلسطينيين في القول إنها «قتلت أبو عمار»، وكانت السبب الرئيسي لعدوان آذار 2002.
لو وصلت الأسلحة إلى المقاومة لكانت نقلة نوعية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
كانت السفينة محمّلة بقاذفات وراجمات وصواريخ مضادّة للدروع ومواد متفجرة متطورة من نوع C4
مؤشرات كثيرة ظهرت عن التوجّه لإنهاء حكم عرفات.
مؤشّرات غير مرتبطة فقط بما نشر بعد الوفاة عن لقاءات سرية بين أرييل شارون ومسؤولين أميركيين، بل باجتماعات علنية لمسؤولين أميركيين. ولعل ما قاله وزير الخارجية الأميركية حينها، كولن باول، في اجتماع للجنة الخارجية والأمن في الكونغرس، يمثّل دليلاً على ذلك. باول قال حينها، عندما سئل ما إذا كان قد حان عهد ما بعد عرفات، «لم نصل الى ذلك بعد... لكن كلنا الى زوال».
على ما يبدو، فإن باول كان يوحي بأن قراراً فعلياً قد اتّخذته الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، ولا سيما لما كان من الممكن أن تمثّله السفينة «كارين إيه» من تحوّل استراتيجي للأوضاع في الضفة الغربية وقطاغ غزة سياسيّاً وعسكريّاً.
على هذا الأساس، كان يُنظر إلى السفينة على أنها محطة مفصلية في تاريخ الصراع، ولا سيما بعد اتفاق أوسلو. فما هي قصة «كارين إيه»؟
في صبيحة الرابع من كانون الثاني 2002، خرجت الصحف الإسرائيلية بعناوين عن عملية «سفينة نوح» لتعلن ضبط سفينة أسلحة تحمل اسم «كارين إيه» في البحر الأحمر على بعد 500 كيلومتر من ميناء إيلات الإسرائيلي. السفينة الآتية من إيران كانت محمّلة بزنة خمسين طناً من الأسلحة، بينها صواريخ وقاذفات وراجمات وقنابل وألغام مختلفة، وصواريخ مضادة للدروع بينها صواريخ من نوع «ساغر» ومواد متفجرة متطورة من نوع C4 وقوارب مطاطية وأدوات غوص وأسلحة رشاشة وصاروخية.
ورغم بعد المسافة الفاصلة بين السفينة والأراضي الفلسطينية المحتلة، كان الإسرائيليون على يقين بأن الحمولة كانت متّجهة إلى قطاع غزة، لا إلى الشواطئ اللبنانية. قناعة كشف عنها تقرير نشرة «إي إف إي ريسيرتش» المختصة بموضوع الاستخبارات والأمن، والتي أشارت إلى أن الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، التي كانت تراقب السفينة من لحظة انتقالها من ميناء بندر عبّاس الإيراني، كانت تظن أن الحمولة موجّهة إلى ح** الله. غير أن أحد أفراد الطاقم تحدّث عن الوجهة في أجهزة الاتصال اللاسلكية، والتي كان يتنصّت عليها رجال الاستخبارات الأميركيون، خارقاً الإرشادات الواضحة التي حذرت الطاقم من التكلم في هذا الموضوع والحفاظ على «صمت تام في أجهزة الاتصالات».
إسرائيل سارعت إلى اتهام عرفات بالوقوف وراء شحنة الأسلحة، التي قال مسؤول في وزارة الحرب الإسرائيلية إنها لو وصلت إلى المقاومة لكانت نقلة نوعية في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
عرفات، بدوره، نفى المسؤولية متّهماً إسرائيل بالمناورة. غير أنه رضي بتحمّل «المسؤولية المعنوية»، بناءً على طلب أميركي بعد الكشف عن ضلوع مسؤول ماليّة رئاسة السلطة العميد فؤاد الشوبكي بتمويل العملية.
أبو عمار رضي بتحميل الشوبكي المسؤولية العلنية، غير أنه رفض تسليمه إلى أجهزة الأمن الإسرائيلية، بل حرص على إبقائه إلى جانبه، مع الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات، في مقر المقاطعة أثناء «السور الواقي»، قبل أن يتوصّل إلى تسوية بعد العدوان باحتجازهما في سجن أريحا تحت حراسة أميركية وبريطانيّة.
لكن الأمر لم يدم طويلاً، فبعد مقتل أبو عمار عمدت قوات الاحتلال في آذار 2006 الى اقتحام السجن وسوق الشوبكي وسعدات إلى معتقلات «الشاباك»، التي بدأت تخرج منها اعترافات المسؤول المالي، والتي تشير إلى دور أبو عمّار المباشر في التواصل مع إيران لاستقدام أسلحة ودعم عمليات المقاومة في الأراضي الفلسطينية.
في 18 أيار 2006، خرجت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بعنوان عريض يقول «الصندوق الأسود في مكتب عرفات يفتح أبوابه لجهاز الشاباك». تقرير تضمّن، بحسب الصحيفة، اعترافات الشوبكي عن «استخدام أبو عمّار ملايين الدولارات لتمويل صفقات كبيرة لشراء السلاح والمعدات القتالية».
اعترافات زادت القناعة الإسرائيلية بأن عرفات توجّه إلى المحور الإيراني، الذي لم يكن بعد في قوته الحالية، لمواجهة إسرائيل. إذ ذكرت أن الشوبكي أكد في التحقيقات أن من يقف وراء تهريب السلاح على متن سفينة «كارين إيه» كان «حرس الثورة الإيرانية» وح** الله، مشيراً إلى أنه التقى (الشوبكي) مع مبعوثين إيرانيين في دبي خلال عام 2001، واقترحوا مساعدة عسكرية للسلطة الفلسطينية، تضم بناء مصانع أسلحة وتكنولوجيا صنع معدات قتالية وتدريبات عسكرية. وأضاف إن «الأسلحة التي كانت على متن السفينة جرى تمويلها من جانب عرفات شخصياً، الذي أمر بنقل 125 ألف دولار لتغطية أجرة السفينة».
اعترافات الشوبكي لم تقف عند حدود «كارين إيه» بل تعدتها إلى تفاصيل عن بداية انتفاضة الأقصى، التي تشير إلى الخيار الذي اتخذه أبو عمار حينها. وقال إنه مع بداية الانتفاضة «وصله أمر من الرئيس ياسر عرفات بأن يشتري أكبر كمية ممكنة من السلاح ومن مصادر مختلفة. وأنه أسس جهاز تنسيق بين الأجهزة الأمنية وممثلين عن السلطة في دول مختلفة وعملوا كمنفذين لصفقات شراء السلاح».
إضافة إلى هذا وذاك، تحدث الشوبكي، بحسب الصحيفة، عن أوامر من عرفات بتمويل تصنيع محلّي لمعدات قتالية اشتملت على قاذفات قنابل وقنابل يدوية وعبوات ناسفة، وتمويل إنشاء «كتائب شهداء الأقصى».
قصة لم تأخذ حقها من البحث، وبدا أن هناك من حاول طمسها للحفاظ على صورة أبو عمار المفاوض والمساوم، التي يستمد منها أبو مازن إصراره على المفاوضات على اعتبار أنه يكمّل نهج سلفه. غير أن للحقيقة أكثر من وجه وللحظة المفصليّة رجالها المستعدون لسلوك البدائل الفعليّة مهما كلّف ثمنها. حسام كنفاني.من صحيفة الأخبار اللبنانية